عربي ودولي

لماذا يريد نتنياهو استمرار الحرب؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لم تهدأ المُحرّكات الدّبلوماسيّة والسّياسيّة والعسكريّة الأميركيّة طوال الأسبوعيْن الماضيَيْن لدفع مفاوضات “صفقة التّبادل” قُدماً. لكنّ عرقلة هذه المفاوضات لها مُسبِّبٌ واحدٌ هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لا يريد نتنياهو وقف الحرب بشكلٍ كاملٍ، ولا الانسحاب من محورَيْ “فيلادلفيا” الحدوديّ مع مصر، ولا من “نتساريم – صلاح الدّين”. يُعتبرُ هذان المطلبان أساسيّين بالنّسبة لحركة “حماس”، وكذلك للوسيطيْن المصريّ والقطريّ. والسّؤال هُنا لماذا يُصرّ نتنياهو على استمرار الحرب وعرقلة الحلول؟ هل هي أسبابٌ تتعلّق بمسيرته السّياسيّة والهروب من المُلاحقات القضائيّة؟ أم الأمر أكثر من ذلك؟


يومَ السّابع من تشرين الأوّل الماضي، كان الاتصال الأوّل بين نتنياهو والرّئيس الأميركيّ جو بايدن بعد عمليّة “طوفان الأقصى” بساعات قليلة. أعربَ رئيس الحكومة الإسرائيليّة عن نيّته خوضَ حربٍ قاسية وطويلة، لكنّ أحداً لم يتوقّع أن تستمرّ لتُشرِفَ على عامها الأوّل. كانَ “بي بي” واضحاً بقوله للرّئيس الأميركيّ: “نحنُ نواجه 11 أيلول خاصّاً بنا”. وهذا ما كرّره أمام الكونغرس الأميركيّ في 24 تمّوز الماضي، لكنّه أضافَ إليه عبارة: “واجهنا 11 أيلول بعشرين ضعفاً”.

الحرب الطّويلة والأزمة السّياسيّة

بعد عملية طوفان الأقصى بأيّامٍ قليلة، تحدّث نتنياهو أمام الكنيست في جلسةٍ عُقِدَت لمنح الثّقة لـ”حكومة الطّوارئ” بعدما انضمّ إليها اثنان من زُعماء المُعارضة بيني غانتس وغادي آيزنكوت. أعادَ نتنياهو رواية 11 أيلول، وأضافَ إليها أنّ “يومَ السّابع من تشرين الأوّل هو الأفظع للشّعب اليهوديّ منذ المحرقة النّازيّة، وسنخوضُ حرباً من أجل البيت (أي إسرائيل)، وينبغي أن تنتهي بشيء واحدٍ فقط وهو النّصر الكامل والقضاء على حماس”.

ليسَ من السّهل فهم كيف يُفكّر نتنياهو. لكنّ الأكيد أنّ الرّجلَ ليسَ من طينة السّياسيّين الذين يستسلمون بسرعةٍ، بل من الذين يعلمون جيّداً كيفَ يُحوّلون التهديدات إلى فرصٍ ومكاسب، وإدارة الأزمات واللعب على التناقضات. الشّواهد على ذلكَ كثيرة، وأبرزها عدد الدّورات الانتخابيّة التي استطاعَ الفوزَ بها ونسج التحالفات المُتناقضة للبقاء في السّلطة والهروب من المحاكمات والمساءلات، على الرّغم من تجمّع المُعارضين له وتحالفاتهم مع الإدارة الأميركيّة الدّيمقراطيّة.

من هذا المُنطلق، ليسَ مُستحيلاً معرفة لماذا يريد نتنياهو استمرار الحرب.


بالعودة إلى شهرَيْ آب وأيلول اللذين سبقا “طوفان الأقصى”، كانَ رئيس الوزراء الإسرائيليّ يواجه مرحلةً مُعقّدة من مسيرته السّياسيّة.

كانت شوارع القدس وتل أبيب وحيفا وكبرى مُدن الكيان العبريّ مليئة بالمُتظاهرين المُعارضين الذين لم يغادروا الشّوارع طوال 40 أسبوعاً. وكانَ رئيس الوزراء الإسرائيليّ في خضمّ معركة قاسية مع المحكمة العُليا حول “قانون التعديلات القضائيّة” الذي يحدّ من سلطات المحكمة في تعطيل قرارات حكوميّة، وإعطاء الكنسيت سلطات أكبر وأشمل في تعيين القضاة. بكلام آخر، كانَ نتنياهو الذي خدمَ رئيساً للوزراء أكثر من 15 عاماً فيُعتبر رئيس الوزراء الأكثر مُدّة في تاريخ إسرائيل، يُحاول أن يكُرّس نفسه حاكماً مُطلقاً، وديكتاتوراً بغطاءٍ ديمقراطيّ.


يُضاف إلى كلّ ما سلفَ أنّ الرّجل نجح أكثر من مرّة عبر الفوز بالانتخابات في الإفلات من مُحاكماتٍ بتهم الفسادِ وتقديم تسهيلات ضريبيّة والاحتيال وخيانة الأمانة، وذلكَ بعدما أعلن المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية أفيخاي مندلبليت قراره تقديم لائحة اتّهام رسمية ضدّ نتنياهو ومحاكمته بثلاث تهم فساد في ثلاث قضايا في نهاية عام 2019.

آخر نجاحاته في الإفلات من المُحاكمة كان فوزه في الدّورة الانتخابيّة المُبكرة في تشرين الثّاني 2022، وذلكَ بعدما شكّلَ ائتلافاً يمينيّاً مُتطرّفاً يجمع حزبه “الليكود” الذي له 32 مقعداً، و”الصّهيونيّة الدّينيّة” (14 مقعداً)، و”شاس” (11 مقعداً)، و”يهدوت هتوراة” (7 مقاعد). وصلَ مُجدّداً إلى سُدّة رئاسة الوزراء بمجموع 67 صوتاً، علماً أنّ المجموع الذي يحتاج إليه للفوز هو 61 صوتاً.


منذ عودته إلى رئاسة الوزراء، كانَ نتنياهو على مدى 11 شهراً قبل “الطّوفان” يُدير التناقضات بين “الصّهيونيّة الدّينيّة” وحزبَيْ “شاس” و”يهدوت هتوراه” اللذيْن يُمثّلان الحريديم خشية انهيار الائتلاف والذّهاب نحو انتخابات غير مضمونة النّتائج بسبب التّظاهرات التي كانت قائمة، وبالتّالي فقد الحصانة التي تمنحه إيّاها رئاسة الوزراء، ومواجهة المحكمة وتُهم الفساد التي ستدخله السّجن.

العقيدة الأمنيّة



جاءَ “طوفان الأقصى” وضُربت صورة نتنياهو التي كانَ يُسوّق من خلالها على مرّ السّنين بأنّه “آخر ملوك إسرائيل” ورئيس الوزراء الذي يعمل من أجلَ “أمن الشّعب اليهوديّ”. والأهمّ أنّ “الطّوفان” ضربَ أساس العقيدة الأمنيّة الإسرائيليّة التي رسم خريطتها الأولى الأب الرّوحي لليمين الإسرائيليّ وأحد قادة “الحركة الصّهيونيّة” زئيف جابوتنسكي في مقالته التي نُشِرَت على جزءيْن سنة 1923 تحت عنوان “الجدار الحديدي” (The Iron Wall). خُلاصة ما أراده جابوتنسكي هو أنّ القوّة العسكريّة هي وحدها القادرة على إيجاد واستمرار الدولة اليهودية”.

هذه المقالة هي التي استخلَصَ منها أوّل رئيس وزراء إسرائيليّ وأحد أبرز المؤسّسين للكيان العبريّ ديفيد بن غوريون ما عُرِفَ في حينها بوثيقة “جيش ودولة“. وهي وثيقةٌ عملَ عليها بن غوريون لترجمة مبدأ “الجدار الحديدي”، انطلاقاً ممّا استخلصه لواقع الدّولة العبريّة وصراعها مع المحيط العربيّ في سنة 1953.


كما عرضَ بن غوريون الوثيقة على الحكومة، وتعامل المستوى السّياسيّ معها على أنّها بيانٌ صادر عن رئيس الحكومة وليسَت وثيقة مُلزِمة. لكنّ الواقع يؤكّد أنّ هذه الوثيقة و”الجدار الحديدي” كانا بالفعل العقيدة الأمنيّة الإسرائيليّة.

تكمنُ العقدة الأساسيّة في الأمن الإسرائيليّ في مبدأ إنشاءِ دولةٍ على أرضٍ ليسَت لها. فكان أساس ما خَلُصَ إليه بن غوريون أنّ أمنَ إسرائيل يُصان بالاعتماد على القوّة وتبنّي سياسة هجوميّة لا دفاعيّة، والقيام بكلّ ما يحتاج إليه الكيان العبريّ من جهدٍ سياسيّ في المحافل الدّوليّة.

أراد بن غوريون التأسيس لدولة تُحقّقُ نصراً سريعاً، متى دعَت الحاجة، بسبب صغر حجمها ومحدوديّة الموارد البشريّة، ومن هذا المُنطلق وُضعت مرتكزات العقيدة الأمنيّة الإسرائيليّة على التّرتيب الآتي:

1- تعزيز قوّة الرّدع، بحيثُ يكون للدّولة العبريّة التّفوّق العسكريّ الذي يجعل محيطها يتجنّب المساس بها أو الدّخول في حربٍ معها.


2- 1982 نقل المعركة إلى “أرض العدوّ” وحسمها بشكلٍ سريع. وهذا ما حاول بن غوريون اختباره في العدوان الثّلاثيّ على مصر في 1956 وطُبِّقَ بشكلٍ واسع في اجتياح لبنان في.

3- 1967 الحرب الاستباقيّة بعد “الإنذار المُبكر” في حال التأكّد من تهديدٍ وشيكٍ وتدمير قُدرات العدوّ العسكريّة. وهذا ما نفّذته تل أبيب في حرب.

4- “خيار شمشون” أو استعمال السّلاح النّوويّ كخيارٍ أخير. وهذا ما شرحه باستفاضة الكاتب الأميركيّ سايمور هيرش في كتابه “The Samson Option“. هذا الخيار مُستخلصٌ من رواية العهد القديم، حيث قام شمشون بدفع أعمدة معبد داجون، فسقط السقف، فقتل نفسه مع الآلاف الذين كانوا أسروه. وبحسب الرّواية فإنّه صاحَ حينها “لتمُت نفسي مع الفلسطينيين” (سفر القضاة 16:30). وكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته.


بعد حرب تمّوز 2006، والحروب المُتوالية على قطاع غزّة في 2006 و2008 و2012 و2014 و2021 وصولاً إلى الحرب الحاليّة، لم تعُد ثلاثيّة الأمن الإسرائيليّ القائمة على “الرّدع” و”الإنذار المُبكر” و”الحسم السّريع” صالحة بمعناها العمليّ. حتّى إنّ حركة “حماس” اعتمَدَت قبل عمليّة “طوفان الأقصى” على خِداع الإسرائيليين بإيهامهم بأنّها مردوعة وأنّها غير معنيّة بالحرب، قبل أن تُباغِتَ غلاف غزّة فجر السّابع من أكتوبر الماضي، ويتبيّن العكسُ تماماً.

أوجدَ هذا الإيهام قناعةً عند الجيش الإسرائيليّ بأنّ العقيدة الأمنيّة لا تزال صالحة في وجه “حماس” بعد سلسلة الحروب التي خاضها الجيش على القطاع. وعزّزَ ذلكَ بالسّياج الأمنيّ الذي يعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على التّفوّق التكنولوجيّ الإسرائيليّ، في إطار جزئيّة “الإنذار المُبكر” من العقيدة الأمنيّة.

تعرّضت هذه الجزئيّة لخضّات أساسيّة، أبرزها أسرُ الحزب في لبنان 3 جنود في سنة 2000 وجنديَّين في 2006، وأسر جلعاد شاليط في 2006، ولم تتمكّن الاستخبارات العسكريّة من رصدِ نوايا الحزب وحماس. والخضّة الكبرى جاءَت في “طوفان الأقصى”، حيث سقطَت هذه النّظريّة بمعناها الاستخباريّ البشريّ والتكنولوجيّ.


أطلقت تل أبيب بعدها عمليّة “السّيوف الحديديّة” المُستمرّة إلى اليوم. وهنا ضُرِبَت تماماً جزئيّة الحرب الخاطفة والحاسمة في عقيدة الأمن.

عقيدة نتنياهو.. الإبادة واليد الطّويلة

كانَ لا بُدّ من هذا الشّرح للعقيدة الأمنيّة الإسرائيليّة لمعرفة ما يدور في عقل نتنياهو. فليسَ منطقيّاً القول إنّ الرّجل يطيلُ بالحربِ التي تعدّى عدد ضحاياها المُعلن 40 ألفَ شهيدٍ فلسطينيّ، عدا عن آلاف تحت الأنقاض وعشرات آلاف الجرحى والمُعوّقين، من أجل مستقبله السّياسيّ فقط.

باتَ من الممكن القول إنّ أحد أسباب نتنياهو الرّئيسيّة لاستمرار الحرب هو مُعالجة مأزق العقيدة الأمنيّة. فهو يستثمرُ إلى أقصى الحدود ما حصلَ في السّابع من أكتوبر في هذا الإطار. تجلّى ذلك في استعطافه الغرب في خطاباته المُتكرّرة، وكان أهمّها أمام الكونغرس الأميركيّ حين تحدّثَ عن صراعٍ بين “الحضارة” وما سمّاه “البربريّة” و”الوحشيّة”. وهذا ما جعَلَ العمليّة العسكريّة بالنّسبة له غير قابلة للمساومة والنّقاش.


يُعيدُ نتنياهو بناء العقيدة الأمنيّة بناءً على الآتي:

1- الرّدع بالمجازر والتدمير. يُريدُ من ذلك أن يُوجّه رسالة لأعدائه في المنطقة أنّ المساس بأمن إسرائيل يعني الرّد بنسخة مُطابقة للإبادة الجماعيّة في غزّة. وهذا على الرّغم من أنّ هذه السّياسة أوصلت إسرائيل للمرّة الأولى إلى المحاكم الدّوليّة.

2- الضّربات الاستباقيّة و”اليد الطّويلة”. وهذا ما نفّذه نتنياهو في ضربِ القنصليّة الإيرانيّة في دمشق وقتل الجنرال الإيرانيّ محمّد رضا زاهدي (آذار 2024)، وكذلكَ بعد الغارات الإسرائيليّة على الحُديدة اليمنيّة (تمّوز 2024) بعدما استهدف الحوثيّون تل أبيب بطائرة مُسيّرة، واغتيال فؤاد شكر في بيروت (تمّوز 2024) بعد حادثة مجدل شمس المُثيرة للجدل. زد على ذلك اغتيال رئيس المكتب السّياسيّ لحركة حماس إسماعيل هنيّة في العاصمة الإيرانيّة طهران (تمّوز 2024).


المُشترك في العمليّات المذكورة أنّها كانت ذات بصمات إسرائيليّة واضحة. إذ نُفّذت بطائرات حربيّة وليسَت بعمليّات أمنيّة غير واضحة المعالم. وهو ما يعني أنّ تل أبيب اليوم تبني استراتيجيّة أمنيّة استباقيّة وانتقاميّة عنوانها الوصول إلى أيّ مكانٍ في المنطقة.

هكذا باتَ من الممكن القول إنّ نتنياهو يعيد ترسيخ سياسة جابوتنسكي القائمة على “الجدار الحديديّ”، لكن بمفهومه الخاصّ، بعيداً عن نظرة الأب المُؤسّس ديفيد بن غوريون، التي لم تعُد صالحة بعدما صارَت إسرائيل مُطوّقة بالكامل من إيران وأذرعها. وهو ما جعلَ نتنياهو يُرسّخ هذا الجدار بمفهوم الإبادة الجماعيّة مُقابل أمن إسرائيل. والقصدُ من وراء ذلكَ أنّ نتنياهو لا يُريدُ أن يكونَ غولدا مائير بعد استقالتها عقب حرب 1973، بل يُريدُ أن يُثبّت ذاته ملكاً من ملوك إسرائيل التاريخيّين.

 ابراهيم ريحان - اساس ميديا

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا